أَشْرَاطُهَا. [11]
وقد ورد في بعض الآيات تعبير: وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. [12]
أي أنـّكم ستُقلبون للحضور في القيامة في ساحة الحضرة الإلهيّة؛ وباعتبار أنّ ذلك العالم عالم الصحو المحض وعالم الصدق والواقعيّة، فيتّضح أنّ الناس يعيشون في هذه الدنيا ـ وهي عالم الاعتبار ـ علي أساس الغفلة والنوم، وعلي أساس الكذب والاُمور الاعتباريّة الموهومة، ليكون قلبها وعكسها صحواً وصدقاً وحقيقة.
نعوذ بالله من النفس الامّارة بالسوء التي تُلحق بالإنسان جميع المصائب والتعاسات. وحقّاً إذا وُكل الإنسان إلي نفسه فإنّه لن يقف في تمرّده وجموحه عند حدّ، وسينحدر متسارعاً في منحدر الشقاء والتعاسة، ولنيكون من علاجٍ له آنذاك إلاّ جهنّم المستعرة.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يقود الاُمّة علي محور العزّة والشرف، فحارب الناكثين والقاسطين والمارقين وفقاً لما أخبره رسولالله صلّي الله عليه وآله، وكان أهل الكوفة يسبّبون له الاذي كثيراً ويتمرّدون عن طاعته، ويتقاعسون في تجهيز الجيش وفي الحضور في ساحة القتال، ويقدّمون استراحتهم في بيوتهم مع أهليهم علي الجهاد في سبيلالله، وكانوا يعترضون عليه بآلاف الاعتراضات والانتقادات، كلاّ وفق رأيه وذوقه اللذين اختارهما وانتهجهما، ويُبرزون أنانيّتهم وشخصيّتهم مقابل أوامره عليه السلام، ممّا كان يرهق كاهل الإمام القائم بالحقّ والحاكم بالعدل، المخلص للرعيّة والداعي إلي الله ويُتعبه ويزهّده في الحياة.
الرجوع الي الفهرس
مخالفة الاشعث بن قيس لامير المؤمنين عليه السلام
يروي الثقفيّ في كتاب «الغارات» بسنده المتّصل عن أبي الودّاك أنّ عليّبن أبي طالب عليه السلام لمّا فرغ من حرب الخوارج قام في النهروان خطيباً فحمد الله وأثني عليه بما هو أهله، ثمّ قال:
أَمَّا بَعْدُ، فانَّ اللَهَ قَدْ أَحْسَنَ بِكُمْ وَأَعَزَّ نَصْرَكُمْ فَتَوَجَّهُوا مِنْ فَوْرِكُمْ هَذَا إلي عَدُوِّكُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
فقاموا إليه، فقالوا:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! نَفِدَتْ نِبَالُنَا، وَكَلَّتْ سُيُوفُنَا، وَنَصَلَتْ أَسِنَّةُ رِمَاحِنَا وَعَادَ أَكْثَرُهَا قَصْداً.
ارْجِعْ بِنَا إلي مِصْرِنَا نَسْتَعِدُّ بِأَحْسَنِ عُدَّتِنَا، وَلَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ فِي عِدَّتِنَا عَدَدَ مَنْ هَلَكَ مِنَّا، فَإِنَّهُ أَقْوَي لَنَا علي عَدُوِّنَا؛ وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ كَلاَمَ النَّاسِ يَوْمَئذٍ الاْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ. [13]
أورده الطبريّ كذلك ضمن بيان وقائع سنة سبع وثلاثين.
كما روي في «الغارات» بسنده عن المستظلّ بن حصين أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال في خطبة له:
يا أَهْلَ الْكُوفَةِ! وَاللَهِ لَتَجِدُّنَّ فِي اللَهِ، وَلَتُقَاتِلُنَّ علي طَاعَتِهِ، أَوْ لَيَسُوسَنَّكُمْ قَوْمٌ أَنْتُمْ أَقْرَبُ إلي الْحَقِّ مِنْهُمْ، فَلَيُعَذِّبَنَّكُمْ وَلَيُعَذِّبَنْهُمُ اللَهُ. [14]
الرجوع الي الفهرس
اعتراض البعض علي أمير المؤمنين في قبول التحكيم وخطبته في...
وروي كذلك في «الغارات» بسنده المتّصل عن عمير العبيسيّ، قال: مَرَّ علي عَلَيهِ السَّلاَمُ علي الشَّفَارِ مِنْ هَمْدَانِ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: أَقَتَلْتَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ جُرْمٍ، وَدَاهَنْتَ فِي أَمْرِاللَهِ، وَطَلَبْتَ الْمُلْكَ وَحَكَّمْتَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَهِ؟! لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَهِ.
فَقَالَ علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ: حُكْمُ اللَهِ فِي رِقَابِكُمْ، مَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا أَنْ يَخْضِبَهَا مِنْ فَوْقِهَا بِدَمٍ؛ إِنِّي مَيِّتٌ أَوْ مَقْتُولٌ بَلْ قَتْلاً، ثُمَّ جَاءَ حَتَّي دَخَلَ الْقَصْرَ. [15]
وجاء في «نهج البلاغة» أنّ شخصاً من أصحاب الإمام قام فقال:
نَهَيْتَنَا عَنِ الْحُكُومَةِ ثُمَّ أَمَرْتَنَا بِهَا! فَمَا نَدْرِي أَيّ الاْمْرَيْنِ أَرْشَدُ؟ فَصَفَّقَ عَلَيهِ السَّلاَمُ إِحْدَي يَدَيْهِ علي الاْخْرَي وَقَالَ:
هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ.[16]
أَما وَاللَهِ إِنِّي لَوْ حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ علي الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَل اللَهُ فِيهِ خَيْراً؛ فَإِن اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ، وَإِنْ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتْ الْوُثْقَي، وَلَكِنْ بِمَنْ وَإِلَي مَنْ؟
أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِي بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائِي؛ كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضلْعَهَا مَعَهَا. [17]
اللَهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ، وَكَلَّتْ النَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّكِيّ. [18]
لقد رفع معاوية المصاحف علي رؤوس الرماح حيلةً ومكراً، وعدّ نفسه تابعاً للقرآن، وحكّم كتاب الله، وأناط أمر الحرب إلي التحكيم، فقام أميرالمؤمنين بتحذير الناس كراراً بخطبه وكلامه من نوايا معاوية السيّئة، وأخبرهم أنّ الامر لا يعدو كونه خدعة ليس إلاّ، وأنّ أُولئكم يريدون إيقاف الحرب باسم القرآن فراراً من الهزيمة الحتميّة أوّلاً، ولإيجاد إشكال وخدش ـ عمليّاً ـ في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام من خلال إرجاع الامر إلي التحكيم ثانياً. وعلي كلّ تقدير فإنّهم كانوا يريدون استغلال الفرصة علي نحوٍ سيّي لصالحهم.
ومن هنا فقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ينهي الناس بشدّة عن قبول التحكيم وعن الخضوع له، ولكنّ الضجّة التي قام بها الناس مطالبين بالتحكيم، والفتنة والتفرقة التي حصلت في جيش الإمام (حيث أحاط به القوم بعشرة آلاف سيف مُشهر وهدّدوه أن يقطّعوه إرباً إرباً إن امتنع عن قبول التحكيم) جعلت الإمام لا يجد مناصاً ومفرّاً من قبول التحكيم، وإلاّ خالفه جميع جيشه وعسكره ولانتهي الامر لصالح معاوية بشكل حتميّ.
لذا فقد قبل عليه السلام بالتحكيم. ثمّ مكر الحكمان واحتالا فخدع عمروبن العاص أبا موسي الاشعريّ وانتهي أمرهما إلي الانحراف، فصمّم الإمام علي مواصلة حرب صفّين ليُنهي أمر معاوية الماكر الخدّاع ويحسمه إلي الابد.
إلاّ أنّ طائفة الخوارج خرجوا علي الإمام وكفّروه لقبوله التحكيم، فتصدّي عليه السلام لإخماد هذه الفتنة الداخليّة وأفهم الخوارج بصواب عمله، فتاب غالبيّتهم واعتذروا عمّا فعلوا، أمّا الباقون فلجّوا في غيّهم وعنادهم وتمرّدهم، وقاموا بالإغارة علي أموال المسلمين، وانهمكوا بإثارة الفتنة، فقُتلوا في حرب النهروان وتبدّدوا واستؤصلت هذه الفتنة الخطيرة من جذورها.
وكان الإمام في صدد إعداد جيش مجهّز لمهاجمة أهل الشام ومعاوية عليه الهاوية، حين غاله السيف الآثم لابن ملجم المراديّ فقضي عليه شهيداً.
يروي في «الغارات» بسنده المتّصل عن أَبي عَوْن الثَّقَفِيّ بنِ عُبيداللَهِ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبسَ وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ علي الْمِنْبَرِ.
فَقَالَت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! ثَلاَثٌ بَلْبَلْنَ الْقُلوُبَ.
قَالَ: وَمَا هُنَّ؟
قَالَتْ: رِضَاكَ بِالْقَضِيَّةِ، وأَخْذُكَ بِالدَّنِيَّةِ، وَجَزَعُكَ عِنْدَ الْبَلِيَّةِ.
قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَيْحَكِ! إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ. انْطَلِقِي فَاجْلِسِي علي ذَيْلِكِ.
قَالَتْ: لاَ وَاللَهِ؛ مَا مِنْ جُلُوسٍ إِلاَّ فِي ظِلاَلِ السُّيُوفِ.
الرجوع الي الفهرس
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في حثّ الناس علي الجهاد
ويروي في «الغارات» بسنده المتّصل عن زيد بن وهب أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال في أوّل خطبة له بعد فراغه من النهروان وأمر الخوارج، فقال:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اسْتَعِدُّوا إلي عَدُوٍّ فِي جِهَادِهِمْ الْقُرْبَةُ مِنَ اللَهِ وَطَلَبُ الْوَسِيلَةِ.[19]
إنّ أعداءكم خالي الوفاض من الحقّ يعيشون حياري تائهين، لابصيرة لهم في الحقّ أبداً تعشوا أعينهم عن مشاهدته، أنِسُوا بالظلم والجور فخالط قلوبهم فهم عنه لا يعدلون. بعيدون عن كتاب الله جاهلون به، تنكّبوا عن الصراط الاقوم وانشغلوا بالغيّ والانحراف، ورسخوا في وادي الطغيان والتمرّد والاعتداء فهم فيه مغمورون، وابتلوا بجهلهم وعماهم فهم في مستنقع الضلال وغمرات الغيّ، فأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل، وتوكّلوا علي الله فإنّه يكفي من توكّل عليه واستنصره واستعانه.
الرجوع الي الفهرس
شكوي أمير المؤمنين من الناس
قال: فلم ينفروا بهذه الخطبة ولم ينشروا ولم يبرحوا بيوتهم ومنازلهم، فتركهم الإمام أيّاماً حتّي أيس من أن يفعلوا، فدعا رؤوسهم ووجوهم فسألهم عن رأيهم وما الذي ثبّطهم، فمنهم المعتلّ ومنهم المُنكِر وأقلّهم النشيط، فقام عليه السلام فيهم ثانيةً، فقال:
عِبَادَ اللَهِ! مَا لَكُمْ إِذَا أَمَرتُكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا اثَّاقَلْتُمْ إلي الاْرْضِ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ثَوَاباً؟ وَبِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟
أَو كُلَّمَا نَادَيْتُكُمْ إلي الْجِهَادِ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَكْرَةٍ، يَرْتَجُّ فَتَبْكُمُونَ؛ فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ [20] فَأَنْتُمْ لاَ تَعْقِلُونَ؛ وَكَأَنَّ أَبْصَارَكُمْ كُمْهٌ فَأَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ!
لِلَّهِ أَنْتُمْ! [21] مَا أَنْتُمْ إِلاَّ أُسُودُ الشَّرَي فِي الدَّعَةِ، وَثَعَالِبُ رَوَّاغَةٌ حِينَ تُدْعَوْنَ. مَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُصَال بِهِ، وَلاَ ذَوَافِر عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا. لَعَمْرُاللَهِ لَبِئْسَ حُشَاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ. إِنَّكُمْ تُكَادُونَ وَلاَ تَكِيدُونَ، وَتَنْتَقِصُ أَطْرَافُكُمُ وَلاَتَتَحَاشُونَ، وَلاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ.
إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْيَقْظَانُ، أَوْدَي مَنْ غَفَلَ، وَيَأتِي الذُّلُّ مِنْ وَادِعٍ؛ غُلِبَ الْمُتَخَاذِلُونَ، وَالْمَغْلُوبُ مَقْهُورٌ وَمَسْلُوبٌ. [22] و[23]
وقد أورد السيّد الرضيّ رحمة الله عليه هذه الخطبة في «نهج البلاغة» إلاّ أنـّه أبدل جملة «مَا أَنْتُمْ إِلاَّ أُسُودُ الشَّرَي فِي الدَّعَةِ» بجملة: «مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ»، كما أضاف هذه الجملات:
وَأَيْمُ اللَهِ؛ إِنِّي لاَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِي الْوَغَي وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأسِ؛ [24] وَاللَهِ إِنَّ امْرِءاً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، يُعْرِقُ لَحْمَهُ وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ، وَيَفْرِي جِلْدَهُ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ مَا ضَمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ [25] أَنْتَ، فُكْنَ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ، [26] فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرِفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ، وَتَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَالاْقْدَامُ، وَيَفْعَلُ اللَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ.[27] و[28]
أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَلَكُمْ علي حَقٌ، فَأَمَّا حَقِّي عَلَيكُمْ فَالوَفَاءُ بِالبيعَةِ وَالنُّصحُ لِي فِي المَشْهَدِ وَالمَغِيبِ، والإجَابَةُ حِينَ أَدعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حينَ آمركُم، وَإِنَّ حَقَّكُمْ علي النصيحةُ لَكُم مَا صَحبْتُكُمْ، والتَوفيرُ عَلَيْكُمْ، وَتَعليمُكُمْ كَيلاَ تَجْهَلوا، وَتَأدِيبُكُمْ كَي تَعْلَمُوا، فَإِنْ يُرِدِ اللَهُ بِكُمْ خَيْراً تَنْزَعُوا عَمَّا أَكْرَهُ وَتَرْجعُوا إلي مَا أُحِبُّ، تَنَالُونَ مَا تُحِبُّونَ وَتُدْرِكُونَ مَا تَأْملونَ. [29]
الرجوع الي الفهرس
شكوي أمير المؤمنين من أصحابه
كما جاء في «نهج البلاغة» أنـّه عليه السلام قال في ذمّ أصحابه:
كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَي الْبِكَارُ الْعَمِدَةٌ [30] وَالثِّيَابُ الْمُتَدَعِيَةُ، كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ.
أَكُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ [31] مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا وَالضَّبُغِ فِي وِجَارِهَا.
الذَّلِيلُ وَاللَهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ، وَمَنْ رُمِي بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ [32]وَإِنَّكُمْ وَاللَهِ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ [33] قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ. ] باعتباركم من أهل الاُنس ونشدان اللذّات [ وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَيُقِيمُ أَوْدَكُمْ، وَلَكِنّي لاَ أَرَي إِصْلاَحَكُمْ بِإفْسَادِ نَفْسِي. أَضْرَعَ اللَهُ خُدُودَكُمْ، وَأَتْعَسَ جُدُودَكُمْ،[34] لاَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ، وَلاَ تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ. [35]
كما جاء في «نهج البلاغة»:
أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَي وَدِرْعُ اللَهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ. فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمْلَةَ الْبَلاَءِ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالقَمَاءَةِ، [36] وضُرِبَ علي قَلْبِهِ بِالاسْهَابِ، [37] وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ وَمُنِعَ النَّصَفَ.
أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلي قِتَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهاراً وَسرّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُم اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللَهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا. فَتَواكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّي شُنَّتْ عَلَيْكُمْ الْغَارَاتُ وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الاَوطَانُ. وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الاْنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَبْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا.
وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ علي الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالاُخْرَي الْمَعَاهِدَةِ [38] فَيَنْتَزِعُ حُجُلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالإسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَلاَأُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ. فَلَوْ أَنَّ امْرِءاً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً.
فَيَا عَجَباً وَاللَهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ اجْتِمَاعُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ علي بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحَاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَي، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَونَ وَلاَ تَغْزُونَ، وَيُعْصَي اللَهَ وَتَرْضَوْنَ.
فَإِذاَ أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَّارَةُ الْقَيْظِ. أَمْهِلْنَا يُسَبَّخ [39] عَنَّا الْحَرُّ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَّارَةُ [40] القُرِّ. أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخُ عَنَّا الْبَرْدُ؛ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالقُرِّ. فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللَهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ، حُلُومُ الاْطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ! [41]
لَوَدِدْتُ أَنـِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ؛ مَعْرِفَةٌ وَاللَهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعْقَبَتْ سَدَماً.
قَاتَلَكُمُ اللَهُ! لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً، [42] وَأَفْسَدْتُمْ علي رَأيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلاَنِ، حَتَّي قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لاَعِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلَهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مَرَاساً وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟ لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ علي السِّتِينَ، وَلَكِنْ لاَ رَأَيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ. [43]
الرجوع الي الفهرس
شكواه عليه السلام من أصحابه
كما جاء في «نهج البلاغة» أنـّه عليه السلام قال في مقام الشكوي من أصحابه:
أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، كَلاَمُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلاَبَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاْعْدَاءَ. تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حِيَادِ. [44]
مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ، [45] دِفَاعِ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ، [46] لاَ يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ، وَلاَيُدْرِكُ الْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ.
أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ! وَمَعَ أَيّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟!
الْمَغْرُورُ وَاللَهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ وَاللَهِ بِالسَّهْمِ الاْخْيَبِ، وَمَنْ رَمَي بِكُمْ فَقَدْ رَمَي بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ.
أَصْبَحْتُ وَاللَهِ لاَ أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَأُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ. مَا بَالُكُمْ؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ أَقَوْلاً بِغَيْرِعَمَلٍ، وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ، وَطَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ؟ [47]
ويقول في خطبة أُخري:
وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الاْمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي.
إلي أن يقول:
أَيُّهَا الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، الْمُبْتَلَي بِهِمْ أَمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِياللَهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ.
لَودَدْتُ وَاللَهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشْرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ.[48]
ولقد كان أمير المؤمنين يسعي بهذه الخطب والكلمات البليغة العميقة إلي التحدّث مع أرواحهم، وإلي إحياء إحساسهم الباطنيّ ووجدانهم، وإلي إفهامهم حقيقة الامر بطرق مختلفة، بهذه اللطائف من الإشارات والكنايات والاستعارات.
وقد أورد عليه السلام في خطبة له في بداية حرب صفّين حين منع معاويةُ جيشَ الإمام من الماء:
فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ. [49]